تحقيقات وحوارات

أكتوبر .. يوم المجد

ملحمة العبور.. فدائية وعبقرية مصرية خالدة

محمد عبدالواحد الزيات

كانت عقارب الساعة تُشير إلى الثانية ظهراً، والصمت يخيم على أجواء سيناء، والمصريون محملون بآمال الثأر من طعنة غادرة أثيمة، قبل أن تنفجر صيحات «الله أكبر» لتشق الأرض وتدوي بآفاق السماء، يردّدها خير أجناد الأرض في زحف مقدس لتطهير الأرض المصرية من المحتل الصهيوني الغاشم، وجعل حصونه هباء.. إنها ذكرى حرب أكتوبر المجيدة، التي رسمت الفجر الجديد لمصر والأمة العربية ليزيل الظلمة ويبعث الضياء، يوم هبّ جنودنا البواسل بالإيمان والصبر والعزيمة للذود عن حياض الأرض والعرض والدماء، بعد سنوات من الانكسار؛ ليحققوا النصر المبين ويرفعوا رايات الشرف والمجد، ، ويسطروا تاريخاً من البطولة والتضحية والفداء.

ضربة غادرة

تلقت مصر، في الخامس من يونيو عام 1967م، ضربة عسكرية غادرة أثيمة من قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي باغتت الجيش المصري بأحد الأسلحة والمقاتلات الأمريكية والغربية حينذاك، في الوقت كان خلاله الجيش المصري منهكاً بالفعل بعد مشاركته في حرب اليمن «1962-1967م»، ما مكّن إسرائيل من احتلال أراضٍ واسعة في سيناء المصرية حيث تراجع الجيش المصري للضفة الغربية لقناة السويس، كما احتلت أيضاً الجولان السورية وقطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين.

أبطال أكتوبر

وتحمّلت مصر، آثار الضربة الغادرة بالاستعداد المتواصل على مدار 6 سنوات، من أجل استعجال رد الاعتبار والثأر من المحتل الإسرائيلي الغاشم، لاستعادة التراب المصري المغتصب وأرض الوطن السليبة في سيناء، تخللها حرب الاستنزاف أو حرب الـ3 سنوات التي سطر فيها الفدائيون المصريون تاريخاً عسكرياً مجيداً أضيف إلى سجلات الشرف العسكري عبر التاريخ، من خلال قيادة معارك حامية الوطيس ضد الجانب الإسرائيلي مثل معركة رأس العش، ومعارك القوات الجوية، ومعارك المدفعية المصرية، وعملية إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، ومعركة الـ3 صواريخ الأمريكية، وغيرها، والتي شهدت بطولات مصرية لا تزال شاهدة على مدى قوة وشجاعة الجندي المصري.

حرب النصر

بعد سنوات من الألم، تجرعت فيها مصر وشعبها كؤوس المعاناة والحسرة على احتلال الأرض المصرية، انتظم الجميع شعباً وجيشاً حول قدسية استعادة الأرض المصرية مهما كلف الأمر من تقديم أبناء الشعب المصري كوقود للمعركة، إذا كانت الشهادة فرحاً وفخراً فلم يكن هناك شيئاً يعلو فوق استعادة الأرض المصرية السليبة، إلى جاءت حرب أكتوبر المجيدة بصيحات «الله أكبر» التي شقت الأرض والسماء لتمحو آثار الهزيمة وترد الأرض المصرية لأحضان المصريين الذين لم يبخلوا عليها بدمائهم.

نسف خط بارليف

ونجحت مصر، في التخطيط لحرب أكتوبر عبر خطة عبقرية أصبحت تٌدرس لاحقاً في الكليات والمعاهد العسكرية المحلية والدولية عُرفت باسم “الخداع الاستراتيجي”، والتي بدأ تنفيذها قبل الحرب بأيام لإيهام الاحتلال الإسرائيلي المدُجج بأحدث الأسلحة الأمريكية وتقنيات المراقبة بالأقمار الصناعية التي لم تكون مُنتشرة عالمياً حينذاك، حيث جرى تحديد موعد الحرب في الساعة الثانية ظهراً من يون السادس من أكتوبر عام 1973ميلادياً، الموافق العاشر من رمضان عام 1393 هجرياً.

واستطاعت القيادة المصرية التمويه على قرار الحرب، فلم يسبق موعده أي أدلة أو معطيات تشير إلى نية مصر شن الحرب، حتى أذاقت إسرائيل من نفس كأس حرب عام 1967م، وباغتت الإسرائيليين بنيران عسكرية لم يسبق لهم أن تعرضوا لمثلها في حرب فلسطين عام 1948م، وحرب العدوان الثلاثي عام 1956م، حيث شن سلاح الطيران المصري ممثلاً حينها بـ220 طائرة هجوماً موحداً ومتزامناً ضد الأهداف الإسرائيلية شرقي قناة السويس، ليدمر على الفور غالبية الأهداف الإسرائيلية الحصينة على طول «خط بارليف» أو المانع الترابي الذي شيده الإسرائيليون ليعيق أي تقدم للقوات المصرية جهة الشرق.

نسف خط بارليف

وحققت ضربات نسور القوات الجوية المصرية، نحو 95% من أهدافها بنسف العديد من مخازن الذخيرة المتواجدة في محيط «خط بارليف»، وكذلك نقاط ودشم تجمع الجنود الإسرائيليين ومدرعاتهم، فضلاً عن مراكز الدبابات والمطارات.

وبالتزامن مع الضربات الجوية المصرية، كان بواسل قوات المشاة المصرية قد بدأت التحرك بالفعل صوت الضفة الشرقية للقناة، حيث عبرت لمسافة 20 كيلو متر داخل الأراضي المصرية المحتلة في سيناء، وواصلت زحفها لتطهير الأراضي المصرية من المحتلين ببطولات خالدة لم تخلو من مواجهات بين صدور الجنود المصريين وأرتال الدبابات الإسرائيلية الحديثة، التي جرى إعطابها بأيادي المصريين وبنادقهم وقنابلهم اليدوية.

العبور العظيم

لم يكن عبور المصريين لـ «خط بارليف» الإسرائيلي الذي كان بمثابة أكبر وأخطر الموانع العسكرية تحصيناً على وجه الأرض في تلك الفترة، مجرد انتقال من الجبهة المصرية للأراضي المحتلة بل إحدى أكبر البطولات العسكرية في التاريخ الحديث، حيث نجح المصريون في إزالة الساتر الترابي وما به من ألغام وأنابيب النابالم شديدة الاشتعال، من خلال مضخات المياه وكذلك التفجير بالمدافع والطائرات.

لحظة عبور القوات المصرية للضفة الشرقية

أما الجانب الأعظم في تضحيات نسف مانع «بارليف»، فكانت تضحيات الفدائيين المصريين الذين كانوا يسدون فتحات أنابيب النبالم بأجسادهم حتى يتمكن رفقائهم من العبور، حتى عبرت 5 فرق مشاة مصرية كاملة وأكثر من 1000 دبابة مصرية إلى الأراضي المحتلة في الضفة الشرقية لتدك حصون الإسرائيليين وتقذف الرعب في قلوبهم.

الثغرة

حققت القوات المصرية حتى يوم الـ14 من أكتوبر عام 1973م، انتصارات واسعة ضد الاحتلال الإسرائيلي وصولاً لمعركتي بورسعيد والفردان التي شهدت خسائر جسيمة في صفوف العدو، فيما وصلت ضربات الطائرات المصرية حتى بحيرة طبريا، وكادت إسرائيل تسقط بأكملها أمام تقدم القوات المصرية، لكن مع استمرار تقدم القوات المصرية شرقاً داخل سيناء وصوب إسرائيل، كانت الأقمار الصناعية الأمريكية تخطط للجانب الإسرائيلي كيفية الاحتفاظ بقبلة الحياة في هذه الحرب.

العبور

وفي 15 أكتوبر، رصد الأمريكان، لحلفائهم الإسرائيليين ثغرة بين قوات الجيش المصري، حيث ملأتها إسرائيل على الفور وحاولت التقدم نحو الإسماعيلية بجانب إعادة التقاط أنفاسها عبر جسر جوي وبري وبحري أمريكي بالإمداد والإبرار بالمعدات العسكرية المتطورة، حتى كادت الحرب تقضي على الطرفين، بعدما سعت قوات الجيش المصري لسد الثغرة والتصدي للتقدم الإسرائيلي خلف ظهر القوات المصرية الأخرى المتواجدة بعمق الأراضي المحتلة.

قرار مجلس الأمن 339

مع تطور الحرب واستمرار الخسائر الإسرائيلية، كانت «الثغرة» مجرد قبلة حياة من واشنطن لحليفتها تل أبيب، من أجل اسمرار وجودها، لكن مع تدخل الاتحاد السوفيتي وتضرر إمدادات الطاقة العالمية بعد المقاطعة العربية للغرب، تدخل مجلس الأمن بإصدار قراره رقم 339 بوقف إطلاق النار، والذي قبلته إسرائيل على الفور نظراً للتقدم المتواصل للقوات المصرية وتحقيقها انتصارات متتالية.

وبعد مفاوضات مصرية إسرائيلية برعاية الولايات المتحدة، توصل الجانبان إلى توقيع اتفاقية فض الاشتباك الأولى في 18 يناير عام 1974م، والتي انسحبت بموجبها إسرائيل من غرب قناة السويس، ومع استمرار المفاوضات تمكنت مصر، من استعادة طابا المصرية عام 1981م.

لتثبت حرب السادس من أكتوبر، مدى قوة وبسالة الجندي المصري الذي يتخطى العتاد العسكري بدمائه ولا يعرف الحواجز ولا المستحيل، مدفوعاً بإيمانه بالله _سبحانه_ ثم النصر، ويبقى المجد للأبطال الصادقين المخلصين من أبناء مصر الذين بذلوا دماءهم دفاعاً عن تراب الوطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

فضلا ادعمنا لكى نستمر من خلال تعطيل حاجب الإعلانات