محمد عبدالواحد الزيات
منْ يشاهد مجوهرات الماس التي لطالما تستعرض تألقها في بيوت الأزياء أو المزادات العالمية، حيث لا يُنافس بريقها شيء حين تتدلى على أعناق النساء، أو تُثقِل خزائن الأثرياء، ربما لا يعلم أن هذه البلورات البراقة بالثراء تكمن في باطنها لعنة موت الإنسان إرضاءً لرغبات الآخر، لأنه من أجلها اندلعت حروب وحلت مجاعات وإبادات في البلدان المُصدرة للماس في أفريقيا، حيث تحول أمراء الحرب المسيطرين على مناجم هذه السلعة الثمينة، إلى آلات قتل تُقطِّع الأوصال وتُمزق المجتمعات، لدرجة أن مواطني هذه البلدان، قد أكلوا أجسام بعضهم البعض بسبب النزاعات على مناجم الماس والسيطرة عليها.

وتحت أسطح الماسات اللامعة التي تأسر الأعين، تشتعل بلورات من اللهب تحكي قصص مأساوية لشعوب أفريقية تعيش على أرض تنوء بالخيرات لكن حل بلاؤها في مناجمها الماسية التي سطرت تاريخاً من البؤس، بتجارة موت جعلت استخراج الماس مرادفاً للسخرة والدماء، فبسبب ذلك البريق الذي يرسم الأحلام ويستنفر الرغبات، تعاني 6 دول إفريقية من ويلات الحروب منذ مطلع التسعينات، ما أدى لإبادة الملايين في سيراليون، وإفريقيا الوسطى، وليبيريا، والكونغو، وأنجولا، وساحل العاج.
وأصبح حال الدول الأفريقية الـ6 المُصدرة للماس مأساة يعيشها الملايين من الأطفال والنساء والرجال الذين يسوقهم أمراء الحرب وتجار الرق إلى الموت؛ بحثاً عن الماس في الوحل وأعماق الأنهار، فلا مانع هنا من سلب الحياة من أجل أن يسطع بريق ماسة في مزاد عالمي أو يتدلى على عنق ممثلة عالمية !.
سيراليون.. ثروة أم لعنة ؟
بالأدوات البدائية والأيادي العارية، يعيش غالبية المجتمع السيراليوني في حلقة مفرغة من البؤس والجوع والمرض، إذ ينهمك الأطفال والنساء والرجال يومياً، في تفتيت التربة على أمل إيجاد ما يُرضي أمراء الحرب من فتات الماس المُستخرج من التربة، بعد عذابات كأنه صممت لإيلام الإنسان.

وتعد سيراليون الغنية بمناجم الماس، النموذج الأفريقي الأبرز للنزاعات على هذا الحجر الدامي، الذي حوّل البلدَ إلى ساحة حرب أهلية استمرت ما بين عامي 1991 و2002م، حيث قُتِل فيها أكثر من 176 ألف إنسان، وتشرد أكثر من مليونين آخرين، وبرغم ذلك، إلا أن تمزيق المجتمع السيراليوني لم يكن المأساة الوحيدة، بل تمزقت معه ثروته الماسية التي كانت مُسبباً للأزمة.

وحتى عام 1998م، جادت الأراضي السيراليونية بقرابة 55 مليون قيراط من الألماس، قُدرت قيمتها بـ 15 مليار دولار، إلا أن جميعها ذهب أدراج تمويل الصراع والحرب في البلاد، فتحولت سيراليون من أغنى بلد إفريقي بمناجم الماس إلى إحدى أشد بلدان العالم فقراً، من أجل بريق الماس!.
إفريقيا الوسطى.. دماء الماس
تحت لهيب الشمس، وفي أرض موحلة بدولة أفريقيا الوسطى، تمر الأيام المتشابهة على شعب هذا البلد، حيث ينحني أطفال ونساء ورجال غارقين في عرقهم، بحثاً عن الماس الموعود، وكأن عيونهم لا تعلم شيئاً عن العالم الذي نعيشه، و لا ترى السماء سوى عند النوم، فعلى أجسادهم تمتد خطوط غائرة في الجلد بأنحاء الجسد، وهي ليست طقوساً إفريقية مثلما هو معروف عن عادات إفريقيا، بل ضربات سياط مؤلمة تسوق المعذبين في الأرض إلى سخرةً للتنقيب عن الماس.

وبدأت قصة الماس الملعون في إفريقيا الوسطى، في عام 2013م، حيث أطاحت جماعة “سيليكا” المسلحة بالحكومة، بسبب الماس، ما أدى لاندلاع حرب أهلية طاحنة، فسرعان ما استعرت هذه الحرب التي أشعلها الماس بنزاعات لاحقة بين جماعة سيليكا ومليشيا آنتي بالاكا، ما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من أبناء هذا البلد بطرق بشعة.

وأثناء الحرب في أفريقيا الوسطى، عانى شعبها من ويلات الإجبار العمل بالسخرة في المناجم، من قبل الجماعات المسلحة المتحاربة والباحثة عن الثراء، حتى فُرض حظر دولي على تصدير الماس من هذا البلد، من أجل تهدئةً الصراع ومحاصرة مليشيات الموت التي تعمل في تجارة الماس.
صناعة الموت
في الوقت الذي تبحث خلاله أي دولة في العالم، عن صناعة المخترع الصغير أو قادة المستقبل من أبناء شعبها، إلا أن الأمر مختلف فيما يتعلق بالدول الأفريقية الغنية بمورد الماس، حيث لا تتورع المليشيات المسلحة عن تجنيد الأطفال، لاستغلالهم في الإشراف على عمال السخرة في المناجم، فتجنيدهم وسيلة مفضلة لدى المسلحين، لسهولة السيطرة عليهم ودفعهم لارتكاب أبشع المجازر.

ولم تسلم الفتيات الإفريقيات في بلدان الماس، من لعنة هذه البلورات الساحرة، حيث يقدم أمراء الحرب من مسلحي المليشيات على استغلالهن كسلع ترفيهية لهم أثناء البحث عن الماس، حيث تتعرضن لعنف جسدي وممارسات وحشية لا يمكن تصورها، بينما نساء أخريات في العالم ترتدين عقود ومجوهرات الماس، التي يموت بسببها الآلاف في أفريقيا.

وحتى اليوم، يواصل تجار الموت في أفريقيا، استعباد وقتل الأبرياء بسبب الماس، وربما لم يحن الوقت ليدرك المتنازعون على الماس الأفريقي الدامي، أن ما تحت تراب بلادهم من ثروات، هو مورد للنماء والسلام لا للدمار والحرب، وأنه في اليوم الذي يتقبل فيه كلٌّ منهم الآخر؛ ستزول دماؤهم عن ماسهم، ليتلألأ بريقه بمستقبل هادئ وزاهر يتواصل عبر الأجيال.