تحقيقات وحوارات

مصر المحروسة بين «سلة غلال العالم» و«ثورات الجياع»

شعبان حمزة وأحلام عبدالرحمن

مصر المحروسة محشورة بين نقيضين، لا يمكن لعاقل استيعاب هذه الوضعية، فمعروف عن المحروسة أنها «سلة غلال العالم»، فكيف لأهلها أن يصيبهم الجوع؟ وكيف يستوعب العقل أن يكون المخزون الإستراتيجي لمصر المحروسة من السلع الإستراتيجية لا يقل عن 6 أشهر، وعليه قامت حكومة المحروسة بالتعاقد على استيراد 360 ألف طن قمح، للمحافظة على المخزون الإستراتيجي.

هذه الوضعية لحالة نقص الحبوب في مصر المحروسة مع أنه معروف عنها أنها «سلة غلال العالم» ينقلنا إلى تاريخ مصر القديم، لاستشراف وضعيتها الخاصة بتوافر الغلال، ولماذا آلت إلى ما آلت إليه؟ وكيف تتمكن مصر المحروسة من العودة إلى وضعية كونها «سلة غلال العالم»؟

مصر المحروسة «سلة غلال العالم» حتى عام 1951م!

توثق جدران المقابر والمعابد الفرعونية عملية زراعة القمح بتفاصيلها كافة، منذ نثر البذور حتى الاحتفال بالحصاد.

كما كانت مصر تطعم الإمبراطورية الرومانية بالقمح خلال فترة الاحتلال التي طالت ما يزيد علي 600 عام، وقبلها كانت سفن الغلال تسير من ميناء الأسكندرية إلي مدن اليونان القديم.

وفي عام الرمادة في عصر الخليفة عمر بن الخطاب عندما حدث جفاف في الجزيرة العربية، أرسل عمرو بن العاص، حاكم مصر، قافلة غذائية أطعمت الجزيرة العربية وكفتها مؤونة المجاعة واستمر هذا الوضع حتى منتصف القرن العشرين.

وللأسف بدأ التحول للاستيراد في عام 1951 عندما استوردت مصر القمح لتغطية احتياجات القوات البريطانية علي أرضها ثم في عام 1952 وبعد الإطاحة بالملك فاروق بدأت عملية استيراد القمح للاستهلاك المحلي عندما اتجهت الحكومة الجديدة لتعميم استخدامه بدلا من الذرة في صناعة الخبز.

وبحسب بيانات وزارة الزراعة الأمريكية فإن استيراد مصر من القمح عام 1960 بلغ 996 ألف طن.

وظلت كميات القمح المستوردة في مصر تتزايد عبر السنين مع زيادة عدد السكان لكن ظلت اليابان هي أكبر مستورد للقمح في العالم حتى عام 1984 عندما انتزعت مصر هذا المركز حيث وصلت وارداتها حوالي 6.3 مليون طن من القمح متخطية اليابان التي كانت المستورد الأول حينها بواردات بلغت 5.6 مليون طن.

كيف عالج يوسف الصديق اقتصاد مصر؟

نعود بكم إلى الوراء حتى نصل إلى مصر الفرعونية، وكيف كانت أوضاعها الاقتصادية خصوصًا في عهد يوسف الصديق عندما {… قَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (يوسف-43).

رأى حاكم مصر حلماً فيه سبع بقرات سمان تأكلهن سبع بقرات عجاف، فتذكر ساقي «الفرعون» صاحبه في السجن يوسف الصديق {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} (سورة يوسف).

علاج المشكلة:

1- ازرعوا سبع سنين على عادتكم في الزراعة بدأب أي بجد واجتهاد.

2- حفظ أكثر ما أنتجت مزارعكم، وأن يكون الاستهلاك بقدر الحاجة.

3- ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُون.. {سَبْعٌ شِدَادٌ} أي: مجدبات جدا {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي: يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا. {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} أي: تمنعونه من التقديم لهن.

4- ثم تكون الجائزة ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ﴾، أَيْ: يُمْطَرُونَ مِنَ الْغَيْثِ، وَهُوَ الْمَطَرُ. وَقِيلَ: يُنْقَذُونَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ اسْتَغَثْتُ فُلَانًا فَأَغَاثَنِي، ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَعْصِرُونَ، بِالتَّاءِ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ رَدًّا إِلَى النَّاسِ، وَمَعْنَاهُ: يَعْصِرُونَ الْعِنَبَ خَمْرًا وَالزَّيْتُونَ زَيْتًا وَالسِّمْسِمَ دُهْنًا وَأَرَادَ به كثرة النعم وَالْخَيْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْصِرُونَ، أي: ينجون من الكرب والجدب الذي كانوا فيه، والعصر: النجاة وَالْمَلْجَأُ.

هكذا استطاع يوسف الصديق عليه السلام أن ينجو بمصر المحروسة من المجاعة إلى الاستقرار الاقتصادي.. واحتلت مصر المحروسة لآلاف الأعوام مهمة إطعام العالم القديم. حتى وإن صادفها الجوع أحيانا كانت تعود إلى موقعها خلال سنوات معدودات.

فكيف حدث التراجع وصولاً إلى الوضع الحالي؟

هكذا استطاع الملك توظيف الخبير العليم يوسف الصديق، وبنى تحت إشرافه صوامع ضخمة لاختزان الغلال، وصارت مصدر غذاء لمصر والبلاد المحيطة.

تذكر كتب التاريخ أن قمح مصر وشعيرها كانا يطعمان ويسقيان الامبراطورية الرومانية خلال فترة الاحتلال التي طالت ما يزيد على 600 عام، وقبلها كانت سفن الغلال تسير من ميناء الأسكندرية إلى مدن اليونان القديم. وتذكر الكتب نفسها أن موقع مصر وكونها «سلة غذاء العالم» كانا سببين كافيين لجعلها مطمعا للغزاة.

عرفت مصر خلال تلك السنوات الجوع أحياناً بسبب سوء تدبير الحكام وفساد التجار في فترات الانهيار، لكنها كانت تعود لتحتل موقعها إلى أن جاء القرن العشرين لتبدأ رحلة مصر في توسُّل صفقات القمح الرخيصة كي تطعم شعبها، فكيف حدث الانهيار.

تاريخ الجوع والضرائب

فرضت الضرائب على المصريين في عصر الرومان للوفاء بالتزامات السلطات تجاه الإمبراطورية. من بين تلك الالتزامات، وفقاً لما ذكره محمد علي في مؤلفه «حضارة الرومان»، أن تمد مصر الإمبراطورية بثلث احتياجاتها السنوية من الغلال، ما يعني أن مصر كانت تحقق الاكتفاء الذاتي من تلك السلعة.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما بعد ذلك كما يقول أحمد عبد الرازق، في مؤلفه «تاريخ وآثار مصر الإسلامية من الفتح العربي حتى نهاية العصر الفاطمي»: «من الواضح أن مصر كانت بالنسبة للدولة البيزنطية بمثابة سلة الخبز التي تمد الدولة بالمؤن اللازمة».

لماذا تراجعت «مصر المحروسة»؟!

ظلت «مصر المحروسة» رائدة في هذا المجال طويلاً، إلا أنها في منتصف القرن العشرين، على الأرجح، بدأت في فقدان هذه المنزلة، وتحولت الدولة إلى النقيض تماما.

السياسات التصديرية المصرية التي جعلت أولوية الزراعة للفراولة والموالح على حساب القمح للاستفادة من أرباح التصدير، أثبتت فشلها؛ إلا أن الدولة استمرت فيها وصولاً إلى الأزمة الحالية.

ففي مقال يشبه الدراسة، كتب الباحث المختص في علم الاجتماع الريفي الدكتور صقر النور، عن أثر السياسات التصديرية للدولة المصرية في التأثير على قدرتها من تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي فيما يتصل بالقمح والأعلاف.

ويستند الباحث المختص إلى بيانات حكومية تظهر فشل السياسات التصديرية المصرية التي تعتمد على التوسع في الحاصلات الزراعية القابلة للتصدير، مثل الموالح والفواكه وعلى رأسها الفراولة، في مقابل تقليل المساحات المخصصة لزراعة القمح والأعلاف على أن تستفيد الدولة من فارق الربح من العملة الصعبة الذي تجنيه بين عمليتي التصدير والاستيراد.

يقول صقر النور أن تلك السياسة أثبتت فشلها منذ العام 2007 إلا أن الدولة المصرية لا تزال مستمرة في تبنيها. وتتعرض هذه السياسة حاليا إلى ضربة إفشال جديدة، ليس فقط لأن مصر لن تجني موارد موارد كافية من فارق التصدير بسبب الغلاء الذي ضرب أسعار القمح، بل ولأن المستورد الأساسي للموالح والفراولة المصرية هي روسيا نفسها التي باتت تعاني حصاراً اقتصادياً جراء العقوبات، قد يؤثر على قدرتها على شراء الحاصلات المصرية.

أزمة لم تحدث منذ عهد يوسف!

تشير المراجع والمصادر المختلفة إلى أن مصر على مدار تاريخها مرت بالعديد من الأزمات التي تسببت في اختفاء القمح أو زيادة أسعاره بصورة كبيرة، سببت مجاعات في أحيان كثيرة.

ولنبدأ من عصر الدولة الفاطمية، الذي أوردت أميرة الشيخ فرحات في مؤلفها «الفاطميون (تاريخهم وآثارهم في مصر)»، بعضا من الأزمات التي حدثت خلاله، قائلة: «لأول مرة منذ الفتح العربي تورد المصادر التاريخية قصة مكررة للسنوات السبع العجاف، وإن زادت هذه المرة إلى 9 سنوات، بدأت في عام 341 هـ/ 952 م، وكان سببها كثرة الفئران التي أكلت المحاصيل، وتواكب ذلك مع انخفاض الفيضان، فارتفعت الأسعار، وظل منسوب النيل منخفضا حتى عام 349 هـ/ 960 م، واستمر بالتالي ارتفاع الأسعار، وبلغت هذه الأزمة أوجها سنة 343 هـ/ 954 م، حتى اختفى القمح من الأسواق، فثار الناس وكسروا منبر جامع الفسطاط».

الشدة المستنصرية

وخلال هذا العصر أيضاً، وقعت أزمة أخرى عرفت بـ«الشدة المستنصرية»، في عهد المستنصر بالله الفاطمي (55 هـ/ 1160 م – 567هـ/ 1171م)، أشار إليها ساويرس بن المقفع، في الجزء الثالث من مؤلفه «تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة»، بقوله: «اجتاحت مصر مجاعة لمدة سبع سنوات بدأت في عام 457 هـ، واشتهرت باسم الشدة المستنصرية، يقال إنه لم يحدث مثلها منذ زمن يوسف عليه السلام، بسبب قصور مياه الفيضان».

وفي هذه الأثناء وفقا لما نقل المؤلف عن المقريزي، مثل أحد الأغنياء أمام المستنصر، ليشكو من أنه اشترى أردبا من القمح (يساوي 150 كيلو جرام في مصر) بسبعين ديناراً، فنهبه منه العامة حتى لم يبق منه سوى سبعين حبة قمح، أي كل حبة بدينار واحد.

ويصف محمود السعدني، ما حدث آنذاك، في مؤلفه «مصر من تاني»، بقوله: «نشبت المجاعة أظافرها في البلاد واستمرت سبع سنين، وأكل الناس بعضهم، وبيع فيها القمح بثمانين ديناراً، وأكل الناس الميتة والكلاب والقطط».

ويتضح أن المصادر التاريخية اختلفت في تحديد السعر على وجه الدقة في هذه الفترة؛ إذ ذكر البعض أن السعر وصل إلى 120 دينار للأردب الواحد.

وعاشت البلاد مجاعتين أخريين في عهد الخليفة الآمر بأحكام الله (495 – 524 هـ / 1101 – 1130 م)، وقعت أولاهما في وزارة الأفضل بن بدر الجمالي بسبب نقص فيضان النيل، ونقل ساويرس بن المقفع رأيين في هذه الأزمة، الأول عن المقريزي الذي ذكر أن سعر القمح وصل آنذاك إلى أن أصبح «كل مائة أردب بمائة وثلاثين ديناراً».

 

ووفقا للمؤلف، حدثت مجاعة في خلافة الحافظ لدين الله (524 – 544 / 1130 – 1149)، لكنها كانت طويلة نسبياً؛ إذ استمرت ثلاث سنوات من 536 – 538 هـ، وصحبها وباء في العامين الأولين وبلغ مداه في عام 537ه، وهو ما يتناسب مع انتشار الطاعون الأسود في مختلف أطراف العالم القديم، وكان ابتداء ذلك في شهر شعبان سنة 536 هـ/ 1142 م، فبلغ سعر القمح تسعين درهماً للأردب الواحد، بسبب الانخفاض النسبي لماء الفيضان.

وبالانتقال إلى العصر المملوكي، نجد أن الدولة مرت بعدة أزمات مشابهة، منها ما أورده بلقاسم الطبابي، في الجزء الأول من كتابه «الموت في مصر والشام.. النكبات الديموغرافية في العهد المملوكي»، ويقول فيه: «متوسط سعر القمح حسب ما ذكره العمري (المؤرخ ابن فضل الله العمري) في أيامه هو 15 درهما للأردب، لكن سعره تضاعف عدة مرات ما بين محرم 693 هـ/ديسمبر 1293، وربيع الأول 695 هـ يناير 1296 من 13 درهما إلى ما بين 150 و160 للأردب الواحد، في حين أن سعره في الأوضاع العادية لا يتعدى 2.5 درهما، بسبب المجاعات والأوبئة واحتكار التجار».

الخبز في مصر العثمانية

ولعل أشد فترات المعاناة، هي فترة حكم العثمانيين للمصريين منذ منتصف القرن الرابع عشر، إذ شهد حكمهم وخاصة في القرنين الـ17 والـ18 الكثير من الأزمات والمجاعات، وزادت الأسعار بشكل كبير، ما أدى إلى غضب الرعية وتظاهرهم ضد الدولة في أحيان كثيرة.

ويشير جمال كمال محمود، في مؤلفه «الخبز في مصر العثمانية»، إلى تلك الحقبة، بقوله: «في عهد محمد باشا النيشانجي (1721 – 1725) غلت الأسعار، وارتفع سعر القمح ارتفاعاً حاداً، بعدما شهدت البلاد فيضاناً سيئاً في عام 1722، وبسبب ندرة هذه السلعة حدث هياج شعبي في الأسكندرية، وعندما بلغ سعر أردب القمح في القاهرة 180 بارة (أقدم عملة عثمانية) ثارت الرعية بدورها، ورجم المتظاهرون السناجق (ممثلي الدولة في الإدارات)، والمتوجهين إلى عقد اجتماع في الديوان بالحجارة».

وبحسب المؤلف، استشرى الطاعون في شهر مارس 1723، وكان له تأثير سلبي بين سكان الدلتا، وأفضى تدهور البارة إلى ارتفاع الأسعار، واشتد الغلاء في العام التالي (1924)؛ لأن منسوب المياه كان منخفضا، فوصل سعر أردب القمح في صيف ذلك العام إلى 480 بارة، وعم البؤس الشديد مدينة القاهرة.

بسبب المجاعة الجامع الأزهر في أثناء إلقاء الدروس

ويكشف كتاب «الخبز في مصر العثمانية»، أنه في 3 ربيع الأول 1137 هـ| 20 نوفمبر عام 1724، ثارت الرعية فأغلقوا المحال ونهبوا الأسواق، وهاجموا الجامع الأزهر في أثناء إلقاء الدروس، بسبب المجاعة والغلاء.

وعلى الرغم من استمرار الغلاء لفترات متقطعة، فإن الرخاء عاد في عام 1730، ليصير متوسط سعر القمح في الفترة بين عامي 1730 و1740 مستقرا عن 56 بارة، إلا أن أزمة غلاء كبيرة وقعت بين عامي 1741 و1742 وتراوح سعر الأردب الواحد بين 220 و240 بارة.

وتسبب الفيضان المنخفض عام 1758 في حدوث مجاعة خلال العام التالي مباشرة، فبلغ سعر أردب القمح 255 بارة، وتزامن معه طاعون شديد كان يحصد يوميا في القاهرة نحو 5000 نفس بحسب جمال محمود، ولم تنته الكارثة سوى في عام 1760، ليعود الرخاء سريعا.

ومنيت البلاد بأزمات اقتصادية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، فاقمتها الاضطرابات السياسية والصراعات العسكرية، التي اشتدت أكثر بوصول الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، ففي عامي 1783 و1784 جاء موسمان زراعيان سيئان؛ لأن منسوب الفيضان خلال صيف 1783 كان دون حد الوفاء، وانحسرت المياه سريعاً قبل أن تروي أراضي الصعيد والدلتا، وسرعان ما نتج من ذلك غلاء الأسعار الذي كانت آثاره سيئة للغاية، فوصل سعر أردب القمح إلى نحو 900 بارة، وهو ما لم يحدث من قبل.

وعن هذه الأزمة، قال الجبرتي: «قصر مد النيل وانهبط قبل الصليب بسرعة، فشرقت الأراضي القبلية والبحرية، وعزت الغلال بسبب ذلك، وبسبب نهب الأمراء وانقطاع الوارد من الجهة القبلية، وشطح سعر القمح إلى عشرة ريالات للأردب واشتد جوع الفقراء».

وإذا كانت عدوى الطاعون انتهت في تلك الفترة، فقد عاد الغلاء إلى الظهور سريعا، وذلك بسبب انخفاض الفيضان حتى جاء شهر سبتمبر 1791، فارتفع سعر أردب القمح من 180 إلى 540 بارة، فضج الفقراء، وخشي مراد بك وإبراهيم بك (كبار مماليك الدولة العثمانية) ثورتهم فاجتهدا في العمل على تخفيض الأسعار، ومما زاد الأمر سوءاً تكرار انخفاض منسوب الفيضان فاستمر سعر القمح في الارتفاع، “حتى بلغ حداً لم يسجله على الإطلاق، فبيع بـ1620 بارة”.

ويعلق مؤلف «الخبز في العصر العثماني»، على ذلك، قائلا: «يقف الجبرتي كمؤرخ فذ لتلك الحوادث التي عاصرها، ورآها رؤي العين، فيورد عن حوادث شهر المحرم 1207 هـ/ 1792 ما نصه: (والأمر في شدة من الغلاء وتتابع المظالم، وخراب البلاد وشتات أهلها، وانتشارهم بالمدينة حتى ملأوا الأسواق والأزقة رجالاً ونساءً وأطفالاً، يبكون ويصيحون ليلاً ونهاراً من الجوع، ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع)».

ويؤكد المؤلف أن وصول الغلال من الدولة العثمانية (الغلال الرومية)، حسن إلى حد ما الموقف العصيب، في نهاية عام 1792، غير أن أردب القمح في العام التالي بلغ الحد الأقصى لسعره 720 بارة، ولم تتحسن الأوضاع إلا في شهر أغسطس عندما جاء فيضان النيل وافياً، وخرج المحصول جيدا، لكن لم يقدر لمصر أن تنهض من هذه الأزمة التي دامت نحو 10 سنوات متتالية دون توقف، وظل الحد الأقصى والمتوسط لسعر القمح مرتفع ارتفاعاً شاذاً حتى وصول الحملة الفرنسية في نهاية القرن (1798 – 1801).

كيف تعود «مصر المحروسة» «سلة غذاء العالم» من جديد؟

يعد قطاع التصنيع الغذائي من أكبر القطاعات مساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يمتلك قطاع الصناعات الغذائية في مصر إمكانات وقدرات كبيرة تؤهله للمنافسة بالسوق المصري والأسواق الخارجية، فضلا عن أهمية الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة والتفضيلية الموقعة بين مصر وعدد كبير من الدول والتكتلات الاقتصادية العالمية في زيادة صادرات القطاع لمختلف الأسواق العالمية، مما يؤهل مصر لأن تصبح أحد موردي الغذاء الرئيسيين في العالم وزيادة تنافسية تصدير المواد الغذائية المصرية.

وتستهدف غرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات إستراتيجية بهدف تحقيق استدامة لقطاع الصناعات الغذائية وذلك من خلال العمل على 5 محاور تتضمن إدماج الشركات بمنظومة الاقتصاد الرسمي- تطوير سلاسل القيمة – دمج الشركات الصغيرة والمتوسطة في سلاسل القيمة – تعزيز الابتكار- زيادة الصادرات، وذلك طبقا لما صرح به أشرف الجزايرلى، رئيس مجلس إدارة غرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات.

بناء سلاسل قيمة تنافسية

وأكد «أشرف الجزايرلى» أن رؤية الغرفة تقوم علي بناء سلاسل قيمة تنافسية وشاملة لنمو مستدام في السوق المحلي بهدف أن تصبح مصر مصنع للغذاء لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا والمورد الرئيسي للغذاء لأسواق أوروبا، لافتا إلى أن السنوات الأخيرة شهدنا أن جميع الشركات الغذائية العالمية نقلت قواعدها الإنتاجية لتصنيع الغذاء في مصر وهذا مؤشر قوي لفرص نمو الصناعة وزيادة الصادرات خلال الفترة المقبلة.

وأشار إلى أن قطاع التصنيع الغذائي من أكبر القطاعات مساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية،لافتا إلى أن قيمة الصادرات بلغت 4.2 مليار دولار وحقق نموا العام الماضي بنسبة 19% لافتا إلى انه يساهم بـ18 مليار دولار قيمة مضافة في الناتج القومي الإجمالي، مشيرا إلي أن قطاع الصناعات الغذائية يستوعب نحو 7 ملايين فرصة عمل مباشر وغير مباشر، وحجم استثمارات يزيد عن 500 مليار جنيه لعدد 18 ألف منشأة غذائية أعضاء بالغرفة بالقطاع الرسمي.

وأكد أن مصر تحتل المركز الأول عالميًا في تصدير الفراولة المجمدة، وفي تصدير البرتقال، وأكبر منتج للتمور في العالم، كما تحتل الثاني في تصدير الزيتون المخلل والمصنع، والثالث في تصدير البصل المجفف مضيفا: كما تمتلك مصر ميزة تنافسية وفرص نمو مستقبلية في إنتاج النباتات الطبية والعطرية، والزيوت العطرية والطماطم المجففه، ومصنعات السمك البلطي وفي التمور والخرشوف المجمد، ومركزات الطماطم والفاكهة.

زيادة تنافسية التصدير

وأشار إلى أهمية الحفاظ على سمعة مصر في المعارض الدولية وزيادة تنافسية التصدير من خلال تشجيع المشاركة المصرية في المعارض الغذائية الدولية لافتا إلى أن تصديق الرئيس عبد الفتاح السيسي علي قانون رقم 1 لسنة 2017 لإنشاء هيئة سلامة الغذاء كان له الأثر الكبير في انتعاش قطاع التصنيع الغذائي وزيادة تنافسية صادرات القطاع بجانب توافر بنية تحتية ضخمة من طرق وكهرباء وغاز وطاقة وخدمات لوجستية وموانئ متطورة.

وأكد رئيس غرفة الصناعات الغذائية، أهمية دور وزارة الزراعة في توفير إرشاد زراعي فيما يخص برفع الوعي بمخاطر زيادة استخدام المبيدات والعقاقير الطبية بحيث يتوافق مع سلامة الغذاء وتشجيع إقامة المجمعات الزراعية الصناعية، وتوفير حزم تمويلية بأسعار فائدة مناسبة لتأهيل المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة للتوافق مع متطلبات سلامة الغذاء ودعم القطاع الخاص لتطوير نظام التعليم الفني والتكنولوجي لسد الفجوة بين التعليم النظري ومتطلبات سوق العمل والتوسع في برامج التدريب والتأهيل التي توفرها الغرفة للأعضاء وعلي رأسها برنامج ازدهار حيث تم تأهيل نحو 200 شركة من قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة علي النمو والتوسع.

الأمل.. استصلاح مليون ونصف فدان

لكن كيف يتسنى لمصر أن تحقق أي طفرة تصديرية في مجال الزراعة، دون تطوير هذا القطاع إلهام جدا، والذي يعد بمثابة أمن قومي للبلاد؟!

وبالفعل شهد القطاع الكثير من التطورات والإنجازات خلال الأعوام التسعة الماضية، فى ظل رئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى ضوء ما يمثله القطاع من ركيزة أساسية فى الاقتصاد القومى المصرى، حيث أولاه اهتمامًا بالغًا منذ عام 2014، حيث يسهم هذا القطاع بحوالي 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويستوعب أكثر من 25% من القوى العاملة في مصر، بالإضافة إلى المساهمة الملموسة فى تعظيم الاحتياطي النقدي الأجنبي، من خلال زيادة الصادرات الزراعية.

كانت البداية مع إطلاق المشروع القومي لاستصلاح المليون ونصف المليون فدان، لبناء مجتمعات عمرانية جديدة قائمة على الزراعة من واحة الفرافرة في ديسمبر 2015.

ويشمل مشروع المليون ونصف المليون فدان 13 منطقة في ثماني محافظات، تقع في صعيد مصر وسيناء، طبقا لحالة المناخ وتحليل التربة ودرجة ملوحة المياه هي، قنا، وأسوان، والمنيا، والوادي الجديد، ومطروح، وجنوب سيناء، والإسماعيلية، والجيزة، وتم اختيارها بعد دراسات متعمقة، بحيث تكون قريبة من المناطق الحضرية وخطوط الاتصال بين المحافظات وشبكة الطرق.

وفيما يتعلق باسترداد أراضي الدولة، أصدر الرئيس السيسي قرارًا في فبراير 2016، بتشكيل لجنة لاسترداد أراضي الدولة التي يثبت الاستيلاء عليها بغير حق، كما كلف الرئيس الجهات المختصة باسترداد الأراضي من واضعي اليد، مُبديًا استعداد الدولة لتحرير عقود بيع للأراضي التي أقيمت عليها مشروعات بالفعل بعد سداد قيمتها، ونجحت اللجنة في إزالة وتقنين العديد من الأراضي سواء أراضي بناء أو أراض زراعية.

كما شهد عام 2016 تدشين “مبادرة القرية المنتجة”، وذلك بالتنسيق بين وزارتي الزراعة واستصلاح الأراضي والتنمية المحلية؛ تنفيذًا لتوجيهات، حيث تستهدف المبادرة توفير 200 ألف فرصة عمل للشباب والمرأة في عامها الأول بدعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.

وتهدف المبادرة إلى إعادة الحياة المنتجة إلى قلب القرى المصرية في مختلف المحافظات، عبر خلق تتافسية إنتاجية توفر فرص للعمل، وتخلق حالة اقتصادية تكاملية تخدم المجتمع، وتصب في مصلحة الوطن، وتحقق رفاهية أبنائه.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

فضلا ادعمنا لكى نستمر من خلال تعطيل حاجب الإعلانات