«الشدة المستنصرية».. ما لا تعرفه عن تاريخ أشد مجـاعة في تاريخ مصر «فيديو»
أدهم عثمان
عانت مصر من ظاهرة آكلي لحوم البشر في العصر الفاطمي بسبب مجاعة تعرضت لها البلاد في عهد المستنصر، وسميت المجاعة وقتها بـ«الشدة المستنصرية» وهي مصطلح يطلق على مجاعة حدثت بمصر نتيجة غياب مياه النيل بمصر لسبع سنين متواصلة عرفت بالعجاف نهاية عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري من تاريخ الدولة الفاطمية في مصر 1036-1094م.
وذكر مؤرخون أن الشدة المستنصرية من أشد المجاعات التي حدثت بمصر منذ أيام يوسف عليه السلام، فقد أكل الناس بعضهم بعضاً، وأكلوا الدواب والكلاب، وقيل إن رغيف الخبز بيع بخمسين ديناراً وبيع الكلب بخمسة دنانير.
كما روى أن الأحباش كانوا يتربصون بالنساء في الطرقات ويخطفوهن ويقتلوهن ويأكلوا لحومهن نظرًا لأن الدهون بهن أعلى من أجساد الرجال
تلك الفترة العصيبة من تاريخ أم الدنيا تصحرت فيها الأرض وهلك الحرث والنسل، وخطف الخبز من على رؤوس الخبازين، وأكل الناس القطط والكلاب، حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها وجاع الخليفة نفسه حتى أنه باع مقابر آبائه من رخام وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه، وخرجت النساء جياعا صوب بغداد
حتى أن الخليفة المستنصر نفسه باع كل ما يملك في القصر، حتى بيع من المتاع ثمانون ألف ثوب، وعشرون ألف درع، وعشرون ألف سيف محلي، حتى الجواهر المرصعة بالأحجار الكريمة بيعت بأبخس الأثمان، ولم يبق له إلا حصيرة يجلس عليها وبغلة يركبها وغلام واحد يخدمه.
وذكر المؤرخ ابن إلياس أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، وبسبب ذلك تراجع التعداد السكاني في مصر لأقل معدل في تاريخها
في تلك الفترة ظهر الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به، وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط، وبلغ ثمن كوب الماء لدينار، وبيع دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارا اشترى بها دون كيس دقيق
إلا أن تلك المجاعة لم تكن هي الأولى من نوعها التي تعصف بالمحروسة، حيث وقعت مجاعة مشابهة للمستنصرية، أيام الحافظ لدين الله وفي عهد الفائز وفي سلطة العادل أبي بكر الأيوبي سنة 596 هـ بسبب توقف النيل عن الزيادة..
فأكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ابنه مشويا ومطبوخا، والمرأة تأكل ولدها، وكان يدخل الرجل دار جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ فإذا هي لحم طفل
وعن أسباب تلك الشدة فبحسب كتابات المؤرخين انقسمت لثلاثة أسباب
أولها وصول الجهلاء والظالمين بالرشوة إلى تقلد أعلى مراتب الحكم في الدولة كالمناصب الدينية وولاية الخطط السلطانية من وزارة وقضاء ونيابة وغيرها، فلا هم أهل للولاية، ولا هم أكفاء لرعاية شئون العباد
وثانيها ارتفاع إيجار الأطيان، وغلاء نفقات الحرث والبذر والحصاد، وارتفاع ثمن المحاصيل مما نتج عنه خراب كثير من القرى وتعطيل الأراضي الزراعية ونقص فيما تخرجه الأرض من غلال لموت كثير من الفلاحين والزراع وتشردهم في البلاد بعدما هلكت دوابهم
ولعجز آخرين ممن يملكون الأراضي عن زرعها لارتفاع سعر البذر ونقص اليد العاملة..
وثالثها رواج الفلوس النحاسية التي أصبحت النقد الغالب، واختفاء الدراهم والدنانير الذهبية، وذلك بسبب اتخاذ الأثرياء منها زينة وحُلي، فلم تعُد للنقود قيمة
كما تفنن الأمراء والأتباع والأعوان في الترف والتأنق وتباهوا بفاخر الزي وجليل الحلي، فذهب المال وقلت الأقوات وتعذر وجود المطالب التي يحتاجها الشعب ..
وبعد فترة لم يعد المستنصر يحتمل ما حدث خاصة بعد أن خسر عدة بلدان ومدن كانت تحت حكمه، فدفعه هذه للاستغاثة بشخص يسمى بدر الدين بن عبد الله الجمالي عام 1573م، والذي عرف بالعدل ومد يد العون والمساعدة للدولة الفاطمية، فعيّن وزيرًا وجاء برجاله وفرض سيطرته بالقوة والسلاح بموافقة المستنصر، ثم عمل على إصلاح نظام الري وقنوات الري، واهتم بالزراعة وحارب الجند المتقاتلة وطردهم من مصر.
وجعل المحصول للفلاحين أول ثلاث سنوات، ثم بدأ بالجباية في السنة الرابعة، وهكذا أصلح الجمالي الوضع القائم في مصر وتراكمات الفساد والجوع على مر سنوات عديدة سابقة، ثم بحكمة من الله فاض نهر النيل من جديد وانزاحت الأزمة، فخلّد المصريون ذكر هذا الرجل فأطلقوا اسمه على حيّ من أشهر المناطق والأحياء في مصر فسمي حيّ الجمالية.
وأدى انتشار الأمن والاستقرار في البلاد إلى تنشيط حركة التجارة، كما وقام الجمالي بتعمير البلاد فأعاد ترميم القاهرة وما تهدم فيها، وبنى بها ثلاثة أبواب تعد من أبرز آثار الفاطميين في مصر حتى الآن، وهي: باب الفتوح، باب النصر، باب زويلة، وهكذا عادت زمام الأمور إلى سابق عهدها بيد بدر الدين الجمالي.. لتعود المحروسة لسابق عهدها وازدهارها وريادتها..