تحقيقات وحوارات

«اليورانيوم» يصل أوكرانيا.. والعالم يخاطر بسيناريو «يوم القيامة»

أخطر مادة على الأرض.. عنوان كوارث الإبادة بصنع الإنسان

محمد عبدالواحد الزيات

ارتبط وصفه بمشاهد الهلاك والذعر التي تحبس الأنفاس، فأصبح عنوانًا لأبشع كوارث الإبادة التي صنعتها يد الإنسان، إذ يُحول أجساد البشر إلى رماد تذروه الرياح، بينما الموت في قاموسه ليس لحظياً، بل سلسلة مخيفة تمتد عامًا بعد عامٍ.. إنه «اليورانيوم أو عنصر الحياة والموت».

وكانت حالة من القلق الدولي قد ثارت خلال الفترة الماضية، بعد معلومات عن قيام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بإرسال ذخائر خارقة للدروع تحتوي على اليورانيوم المنضب لأول مرة إلى أوكرانيا، كجزء من حزمة مساعدات عسكرية جديدة لكييف، وفقاً لوكالة “رويترز”.

وحول هذه الصفقة الأمريكية الأوكرانية، وجهت موسكو اتهامات إلى واشنطن، بارتكاب عمل إجرامي على خلفية تزويد أوكرانيا بذخائر اليورانيوم المنضب للمرة الأولى، معتبرة أن الخطوة الأمريكية تعد انعكاساً لتجاهل واشنطن الفظيع للعواقب البيئية لاستخدام هذا النوع من الذخائر في منطقة حرب.

وردت موسكو على الدعم الأمريكي الغربي لأوكرانيا، بالانسحاب من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، على خلفية الحرب في أوكرانيا والأزمة مع الغرب، وسط مخاوف واسعة النطاق من تحرك روسيا لاستئناف التجارب النووية.

وبهذه المناسبة تتناول جريدة «المصرية»، ملف «اليورانيوم» وخطورته وتهديده للحياة البشرية، فضلاً عن استخداماته سواء السلمية والطبية أو تلك المميتة بما يجعل منه عنصر« الحياة والموت في آن واحد»:

أول استخدام مُهلك

في السادس والتاسع من أغسطس عام 1945م، ألقت الولايات المتحدة الأمريكية، خلال الحرب العالمية الثانية، قنبلتين ذرّيتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين؛ وفي غضون دقائق، توقف نبض الحياة فيها؛ حيث اختفت المنازل والمعالم؛ وطُمس كل شيء؛ وأُبيد أكثر من 200 ألف إنسان بالجحيم النووي الذي حول أجسادهم إلى رماد مشع.

وجاء العنوان العلمي الأبرز لهذه المأساة التي لا تُنسى من ذاكرة البشرية ، هو: “اليورانيوم”، إذ كان عنصراً أساسياً في الاستخدام الأول للسلاح النووي؛ ما جعله مرادفاً للرعب لا سيَّما بعد أن خلفت إشعاعات القنبلتين، إرثاً ثقيلاً من الأمراض والسرطانات والصدمات النفسية التي استعصت على النسيان وتوارثتها الأجيال.. إذن ما هي خصائص هذا “اليورانيوم”، وماذا نعرف عن استخداماته في السلم والحرب؟

خصائص اليورانيوم

قبل أكثر من ٤ ونصف مليار سنة، تشكلت ذرات “اليورانيوم 235″، تلك التي احتوتها نواة قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، فاليورانيوم الذي نشأ عند خلق الكون من انفجار نجمي، وُجد لدوره في الحياة، قبل أن يعيده علماء الكيمياء لصورته الانفجارية الأولى.

وكان اليورانيوم، معروفًا بكونه مادة بلا اسم منذ عام 79 للميلاد، حين استخدمه الإنسان بشكله الطبيعي المعروف بثنائي أوكسيد اليورانيوم، في تلوين الزجاج والأشياء، ولكن أول اكتشاف علمي لهذا العنصر جاء في عام 1789م، على يد الكيميائي الألماني مارتن هينريك كلابروث، الذي لاحظ وجود مسحوق أسود في معدن البيتشبليند، فاعتقد في بداية الأمر أنه عنصر الزنك أو أحد خامات الحديد.

قنابل نووية مصنوعة من مادة اليورانيوم

وسرعان ما أعاد “كلابروث”، تصحيح معلوماته بعد تجارب عديدة استنتج منها أنه اكتشف عنصراً جديداً أطلق عليه اسم “اليورانيوم”، تيمناً بالكوكب المُكتشَف حديثًا آنذاك: أورانوس.

لكن في حقيقة الأمر، لم يكن هذا المسحوق الأسود الذي اكتشفه “كلابروث”، إلا أوكسيداً لليورانيوم، حيث انتظر العالَم حلول عام 1841م، ليتمكن الكيميائي الفرنسي يوجين ميلتشير بيليجو، من الحصول على أول عينة من معدن اليورانيوم، عن طريق تسخين رابع كلوريد اليورانيوم مع البوتاسيوم.

وأصبح اليورانيوم، عنصراً رئيساً بالجدول الدوري للعناصر، رمزه: الحرف U، وعدده الذري: 92 ، وتبلغ كثافته 18.95 جراماً لكل سنتيمتر مكعب، ورغم صلابته، فإن معدنه لين يمكن ثنيه ومده، ويكتسب لوناً أسودَ عند تعرضه للهواء بفعل التأكسد، أما نقطة انصهاره فهي عند 1,135 درجة مئوية، فيما تأتي نقطة غليانه عند 4,131 درجة مئوية.

ويعد اليورانيوم من العناصر الـ50 الأكثر وفرة في القشرة الأرضية، فيوجد في الصخور والمحيطات وفي معادن أخرى ، ويتكون من ثلاثة نظائر رئيسية، هي: اليورانيوم – 234، واليورانيوم 235، ونسبة توفرهما في الطبيعة منخفضة بشدة، فيما يأتي النوع الثالث: اليورانيوم 238، المتوفر بنسبة 99.28%.

النشاط الإشعاعي

على الرغم مما توصل إليه العلماء بشأن التعريفات الأولية لليورانيوم، إلا أن خاصية أخرى لهذا العنصر ظلت مجهولة حتى أواخر القرن التاسع عشر، إنها: “النشاط الإشعاعي” الذي لم يدركه العلماء إلا في عام 1896م، عندما اكتشفها عالم الفيزياء الفرنسي هنري بيكريل، ما جعله يفوز بجائزة نوبل للفيزياء لعام 1903م.

وبعد مرور 35 عاماً، اتخذ مستقبل اليورانيوم منحى جديداً، حين نجح العالمان الألمانيان أوتو هان، وفريدريك ستراسمان، في اكتشاف “الانشطار النووي”، فكانت تلك اللحظة التي انطلقت منها معامل أبحاث عسكرية لدراسة إمكانية إنتاج “قنبلة ذرية”، حيث ظهر مصطلح “تخصيب اليورانيوم”.

مادة اليورانيوم

ويعرف تخصيب اليورانيوم بأنه عملية معقدة للغاية تُستخدَم فيها أسطواناتُ طرد مركزي لفصل نظيرَي اليورانيوم 235 و238، ولا تبدأ العملية إلا بعد تحويل اليورانيوم الخام من حالته الصلبة إلى حالته الغازية لتعمل أسطوانات الضغط المركزي بسرعة تفوق سرعة الصوت، حيث تتجمع جزيئات اليورانيوم 238 على الجدار، بينما يهبط اليورانيوم غير المخصب، في حين ترتفع أجزاء يورانيوم 235 إلى مركز الأسطوانة العلوي، وينتقل من أسطوانة إلى أخرى، فترتفع نسبة التخصيب.

ويحتاج الأمر إلى 1500 جهاز طرد مركزي لمدة عام، من أجل صناعة قنبلة نووية واحدة.. وينتج عن ذلك نفايات نووية خطيرة للغاية على الإنسان والبيئة، ووبذلك أصبح لليورانيوم جانب مُصطنَع معتم ومهدد لحياة البشرية حال الاستمرار في تطوير الأسلحة النووية القائمة على مادة اليورانيوم المخصب.

استخدامات سلمية لليورانيوم

يتقاطع مع الجانب المعتم لاستخدامات اليورانيوم مع آخر مشرق، فالحقيقة أنه عنضراً ليس ضاراً ومُرعباً، ولكنه أُريد له أن يكون كذلك، فهو يستخدم بنسب قليلة لمهمة ضرورية للغاية، وهي إنتاج النظائر الطبية للتشخيص والعلاج، ويدخل في تصنيع الأسمدة الفوسفاتية المستخدمة في الزراعة، ويُستخدم أيضًا في عمليات الدفع البحري الخاصة بتشغيل السفن العملاقة، فضلاً عن استخدامه لتوليد الكهرباء كبديل عن النفط .

كما يستخدم اليورانيوم في الحماية من اليورانيوم نفسه؛ فيعمل على التدريع ضد الإشعاع كمكون لأوعية فائقة المتانة لنقل الوقود المستنفد في المفاعلات، ويشكل قوام “أثقـال الموازنــة” المستخدمة للسيطرة على حركة الأجسام الطائرة في الهواء كالطائرات والصواريخ لتحافظ على مركز ثقلها.

استخدامات ضارة لليورانيوم

اتسع الجانب المُعتم لليورانيوم، مع دخول العصر النووي، فمن بؤس الإنسانية أنها دخلته من أسوأ أبوابه، حين ابتذلت قيمتها، ورأت أن تخصيب اليورانيوم ضرورة لسحق من يهدد مصالحها على غرار ما حدث بإلقاء القنبلتين النوويتين الأمريكيتين على مدينتي هيروشيما ونغازاكي اليابانيتين.

وأرادت الولايات المتحدة، بعد المأساة اليابانية احتكار سلاحها النووي الجديد، ولكن سرعان ما انجلت أسرار صنع القنبلة الذرية بين دول العالم، لينطلق سباق تخصيب اليورانيوم بين الدول الكبرى، فبعد 4 سنوات فقط من تلك الكارثة، أجرى الاتحاد السوفيتي أول اختباراته النووية عام 1949 م، تبعته المملكة المتحدة عام 1952م، وفرنسا عام 1960م، ، ثم الصين عام 1964م.

لم يقف صراع تخصيب اليورانيوم عند هذا الحد، بل امتد ليشمل إسرائيل والهند وباكستان وكوريا الشمالية، وتسعى إيران كذلك لامتلاك قنبلة نووية، فأصبح تخصيب اليورانيوم أساساً لعشرات الآلاف من الأسلحة النووية في مختلف بقاع الأرض.

آثار لا يمحوها الزمن

ولا يتوقف خطر هذه الأسلحة الأشد فتكاً وترويعاً، عند قوتها أو ضحاياها، بل يتضمن آثارها المشعة التي تمتد لسنوات؛، فاليورانيوم المشع يُلحق بالكرة الأرضية أضراراً طويلة الأمد، تُحدث اضطراباً شديداً في النظام البيئي وتهدد الأجيال بل وبقاء البشرية بأسرها.

وعلى سبيل المثال، تظل حادثة تشرنوبل هي النموذج الواقعي الأعظم للهلاك البشري بنووي اليورانيوم؛ ففي عام 1986، وتحديداً في فصل الربيع، بمدينة تشيرنيهيف شمال أوكرانيا، كان مصنع معالجة الصوف، مزدحمًا بالعمال المُنهمكين في عملهم، قبل أن يشعر الجميع بمرض مفاجئ!، حيث نزيف من الأنف، غثيان وإغماءات، ومعاناة تجسدت في مشهد مرعب.

وجاءت الإجابة على هذا المشهد المأساوي، من على بعد 50 ميلاً من المصنع، حيث توجد محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية، مع تعرض المفاعل رقم 4 فيها، إلى انفجار كارثي جراء ارتفاع حرارة اليورانيوم؛ ما ألقى بسحب من المواد المشعة فوق المنطقة المحيطة، وسبَّب تلوثاً شديدًا.

منذ ذلك الوقت، أصبح اليورانيوم مرادفاً للرعب: حرباً.. وحتى سلماً!، وولم يتوقف الرعب من هذا العنصر عند القنابل النووية وحوادث انفجار المفاعلات بل امتد إلى باطن الأرض ليشكل خطراً آخرعنوان: “الموت المدفون” أو مقابر النفايات النووية.

وتقع مقابر النفايات النووية، تحت الأرض بقاع عميق يستغرق دقائق بالمصعد، فلا يوجد فيها رفات لأبطال أفنوا حياتهم من أجل البشرية، ولا رفات مهندس من الفراعنة بنى الهرم بأعجوبة خالدة، بل أخطر البؤر المميتة في باطن كوكبنا، فهذه النفايات يمتد ضررها لزمن أطول مما قضاه الإنسان على وجه الأرض، وفي حال انهيار أيٍّ منها على مدار مئات آلاف السنين المقبلة، ستجر وبالاً على البشرية، ينذر بحرمانه من جنانه الخضراء التي تتمايل طرباً على أوتار خرير المياه وحفيف الأشجار

ويتبق أن يشفع ما يعيشه العالم، حالياً من تقدم وجنان خضراء أن يجعل القوى الكبرى، في أمس الحاجة إلى مستقبل خالٍ من الاستخدامات الكارثية لليورانيوم، ليظل بصورته الطبيعية آمنًا للأجيال المقبلة، وتبقى معه الأرض جنة غناء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى