«خالد».. السائق الذي أنقذ المدينة وغادر للسماء

محمد عبدالمقصود
ليست البطولة دائمًا صوتًا مرتفعًا، أو مشهدًا سينمائيًا تصفق له الجماهير.. أحيانًا، تأتي في هيئة رجل بسيط، يرتدي ثيابه كل صباح ليبدأ عمله، غير مدرك أن اليوم سيضعه في مواجهة مصيره، وأنه سيختار دون ترتيب ليكون من حماة الحياة.
«خالد محمد شوقي عبدالعال» كان مجرد سائق شاحنة وقود، رجل بسيط، يعيش كأغلبنا، يعمل بجد، يكدّ من أجل لقمة عيشه، ويخرج كل صباح ليقود مركبته الثقيلة بين شوارع المدينة.
لم يكن يعرف أن صباحه ذاك سيقوده إلى موعد مع النار، ومع البطولة، ومع الخلود، في ذلك اليوم، وبينما كان خالد يعبر بمنطقة المجاورة 70 بمدينة العاشر من رمضان، اندلع الحريق فجأة في مؤخرة شاحنته المحمّلة بالبنزين.
كانت النيران تتصاعد بسرعة، والوقود على وشك الانفجار، والمكان يعج بالناس والسيارات، والأطفال، في لحظات قليلة، تحوّل المشهد إلى كابوس مفتوح على احتمالات مرعبة، كل ثانية كانت فارقة، كارثة كانت تلوح في الأفق، قادرة على أن تُفجع المدينة كلها.
في مثل هذا المشهد، يتوقف الزمن فعلا هناك من يهرب، وهناك من ينهار، لكن خالد لم يكن من هؤلاء، كان من نوعٍ نادر لا يفكر في نجاته، بل يفكر في من حوله. كان قلبه أكبر من الخوف، وروحه أغلى من جسده.
قرر أن يفعل ما لا يفعله إلا الشجعان الحقيقيون: قاد شاحنته المشتعلة بنفسه، مبتعدًا بها عن المحطة، محاولًا أن يسحب الخطر بعيدًا، أن يحاصر النار بنفسه، قبل أن تحاصر المدينة كلها.
بأطراف محترقة، وبقلب يشتعل حبًا للناس، أكمل طريقه متحديًا ألسنة اللهب التي تلاحقه، نجح في إنقاذ المئات، لكنه دفع الثمن كاملاً، أصيب بحروق خطيرة، وتم نقله إلى مستشفى بلبيس المركزي، وهناك دخل معركته الأخيرة، بصمت الموجوعين وشموخ الأبطال.
لم يكن يخشى الموت، بل كان يحزن لأنه لم يعد إلى بيته سالمًا، كان يتمنى فقط أن يحتضن أولاده مرة أخرى، لكن الموت كان أسرع من الأمل، وفي هدوءٍ يشبه هيبة النهاية، رحل خالد، رحل جسدًا، لكنه بقي حاضرًا في القلوب، كل شارع في العاشر من رمضان يعرفه الآن، كل طفل سيكبر وهو يسمع عن «السائق اللي أنقذ المدينة».
خالد لم يكن مجرد سائق، كان ضميرًا حيًا، كان رجولة تمشي على الأرض، ثم ارتقت إلى السماء تاركة لنا درسًا عظيمًا: أن البطولة لا تحتاج شهرة، بل نية صادقة، وقلوبًا لا تهرب عند الخطر.. رحمك الله يا خالد، يا من جعلت من النار دربًا للنجاة، ومن التضحية طريقًا إلى الخلود.