تحقيقات وحواراتسلايدر

شهيدات لقمة العيش.. من مزرعة العنب إلى السماء

 

محمد عبدالمقصود

في صباح يوم الجمعة، حيث الراحة حق لكل مجتهد، لم تكن الراحة خيارًا لهؤلاء الفتيات، تركن دفء منازلهن، وخرجن مع أول ضوء، متوجهات إلى مزرعة عنب في طريق السادات، لجني الثمار وكسب قوت يومهن في يوم عمل شاق، لا تتجاوز أجرته 130 جنيهًا.. مبلغ زهيد، نعم، لكنه حلال لا تسول، ولا استجداء، ولا كبس على توك توك ولا انزلاق في دروب معوجة.

ذهبن ليعملن بأيديهن الطاهرة، بثياب البساطة، وقلوب معلقة بالستر والرزق الطيب، منهن من تعيل أسرة كاملة، ومنهن من تنفق على تعليمها الجامعي، وأخرى تحاول تجهيز نفسها قبل أيام من فرحها الذي لم يأت، كن يعرفن أن الطريق طويل، والعرق كثير، لكن لم يكن يعلمن أن طريق العودة سيكون بلا عودة.

كن صغيرات في العمر، تتراوح أعمارهن بين 14 و20 عامًا، لكنهن كبيرات بالحلم والمسؤولية، لم يعرفن من الدنيا إلا الكفاح، لا رحلات صيفية ولا كافيهات، ولا نزهات نهاية أسبوع، ولا حتى ترف الراحة، سلاحهن الوحيد كان ضحكة صافية ونكتة سريعة يتهامسن بها في الميكروباص، لتسرق من الوقت لحظة خفيفة وسط تعب الطريق الطويل، حلمهن لم يكن أكثر من شهادة تخرج، أو غسالة للجهاز، أو دواء لأم مريضة.

ثم جاء الموت، بلا إنذار، بيد سائق شاحنة غفل أو نام، اقتحم الطريق الإقليمي المعاكس ووأد الحلم تحت عجلاته، ارتطمت الحديدات، واحترق الميكروباص، وارتفعت الأرواح، خفيفة كالدعاء، تاركة خلفها دموعًا لم تجف وقلوبًا مكسورة لن تلتئم.

لم ينج أحد تسعة عشر زهرة وسائقهم الطيب، عادوا في نعوش ملفوفة بالبياض، خرجوا من مسجد واحد بعد صلاة الجمعة، خرجوا من مسجد واحد بعد صلاة الجمعة، وكأنهم على موعد مع رحمة السماء في يوم مبارك لم تستقبل الأمهات بناتهن، بل استقبلن التوابيت، واختنق الدعاء في الحناجر، وسكن الحزن كل بيت في القرية.

قرية كفر السنابسة بالمنوفية بأكملها ارتدت السواد، لا لشيء سوى أن بناتها اخترن طريق الكرامة، فكان الثمن أرواحهن، إنهن عرائس في الجنة، بإذن الله، وهنّ في مقام الشهداء، ونسأل الله أن يربط على قلوب ذويهن، ويجعل مصابهم في ميزان الصبر الجميل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى