«مريم».. الملاك الذي رحل مع الموج

محمد عبدالمقصود
في صباح صيفي هادئ، كانت ضحكات الأطفال تتعالى على شواطئ قليبية التونسية، والنسيم يداعب وجوههم البريئة، فيما كانت الطفلة مريم تلهو فوق عوامتها الصغيرة، لم تكن تعلم أن مياه البحر الزرقاء التي احتضنتها بلطف في البداية، كانت تخفي خلف صفائها صمتا ثقيلًا، وخطرًا لا يرى.
مريم، ذات الأعوام الثلاثة، كانت تعيش لحظتها ببراءة طفل لا يعرف من الدنيا سوى اللعب والضحك، ولكن لحظة واحدة كانت كافية لتحوّل كل شيء، ارتفع الموج، اشتدت الرياح، وتحولت لحظة الفرح إلى كابوس، انزلقت الصغيرة من مدى نظر ذويها، وجرفها التيار بعيدًا عن أعينهم، وعن الأمان.
غابت مريم. اختفت كما تختفي قطرة ماء في محيط، ثلاثة أيام كاملة بقيت فيها هناك، وحدها، في أحضان البحر، لم تكن مجرد أيام انتظار، بل أيام من الخوف والرعب والعجز، عاشتها عائلتها بكل تفاصيل الألم، فيما كان قلب أمها لا يعرف سوى رجاء واحد: أن تعود.
العائلة التي جاءت لتبحث عن الراحة على الشاطئ، لم تكن تدري أن البحر قد يبدل وجهه بهذه القسوة، البحر الذي اعتادوا زرقته كصديق، غدر فجأة، وابتلع طفلتهم في غفلة، روايات شهود العيان أكدت أن العوامة لم تكن كافية لحمايتها من تيار جارف، بينما لم يتمكن أحد من إنقاذها وسط الأمواج المتلاطمة.
في تلك اللحظات، بدأت عمليات البحث، وشاركت فيها فرق الحماية المدنية، وغواصون، ومتطوعون من أبناء المنطقة، مئات الأمتار من المياه تم تمشيطها على مدار الأيام الثلاثة، لكن البحر ظلّ صامتًا، لم يفصح عن سره إلا في النهاية عندما أعاد الجسد الصغير دون حياة.
لم تكن مريم، خلال غيابها، غائبة فقط عن أهلها، بل أصبحت حاضرة في كل بيت عربي تحولت قصتها إلى قضية إنسانية، وملأت صورها صفحات مواقع التواصل، كان الجميع ينتظر معجزة، وكان الأمل معلقا في كل موجة، لكن النهاية جاءت على غير ما تمنّى الجميع.
حين عاد البحر ليسلم الأمانة، لم يسلمها ضاحكة كما كانت، بل نائمة، بهدوء يشبه براءتها، ملامحها الطفولية لم تغب، لكن الروح كانت قد غادرت، مشهد وداع هز كل من رأى صورتها، أو تابع قصتها، أو تخيّل فقط كيف كانت لحظاتها الأخيرة.
لم تبك تونس وحدها مريم. امتد الحزن إلى كل بيت عربي تابع قصتها. كانت مريم في نظر الجميع الطفلة التي لا تعرف الشر، ولا تستحق إلا أن تحيا. فكان وداعها موجعًا، وكان حضورها رغم الغياب شاهدًا على هشاشة الحياة حين يغيب الانتباه، ولو للحظة.