تحقيقات وحوارات

«غزة.. شِعب جديد وآل ياسر آخرون»

حين نتأمل سيرة النبي ﷺ، نجد أن أصعب لحظاته لم تكن في ساحات القتال فقط، بل في لحظات الحصار والجوع والخذلان، حصار قريش للنبي ﷺ وأصحابه في شعب أبي طالب لم يكن مجرد حصارًا ماديًا، بل كان محاولة لخنق الروح، وتجويع الأطفال والنساء والشيوخ حتى يتركوا إيمانهم.

ثلاث سنوات من الجوع، العزلة، وانقطاع المؤونة، أُغلقت الطرق، منع الطعام والشراب، حتى سمع بكاء الأطفال من بعيد، كانت أوراق الشجر قوتهم، والجوع رفيقهم، والصبر زادهم، ومع كل ذلك، تمسكوا بإيمانهم، واثقين أن وراء الشدة فرجًا، وأن العسر مهما طال يعقبه يسر. وفي ذات المشهد، نرى صبر آل ياسر: عمار، سمية، وياسر، الذين لم يترك لهم خيار إلا الثبات أو الهلاك، قتلت سمية بطعنة غادرة، ومات ياسر تحت التعذيب، وبقي عمار شاهداً على أن الثمن قد يكون الروح، لكن العاقبة للمتقين، وكان النبي ﷺ يمر بهم فيعجز عن فك أسرهم، لكنه يواسيهم بكلمات ستظل خالدة: صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.

واليوم، حين ننظر إلى غزة، نشعر كأننا نقرأ السيرة من جديد، حصار ممتد لسنوات طويلة، وحرب إبادة مستمرة منذ أكثر من عامين، حيث يمنع الغذاء والدواء، وتقطع الكهرباء، ويحاصر الإنسان في أبسط حقوقه، أصوات الأطفال الجوعى، وصرخات الأمهات الثكالى، والبيوت المهدمة فوق رؤوس ساكنيها، كلها تجعل صور الشعب وآل ياسر حاضرة أمام أعيننا.

الفرق الوحيد أن المشهد لم يعد في بطون الكتب، بل يبث على الهواء مباشرة، نراه ونسمعه عبر الشاشات ومقاطع الهواتف، ولا نملك إلا أن نشعر بالخذلان ذاته الذي شعر به النبي ﷺ وهو عاجز عن إنقاذ أصحابه من التعذيب.

ومع ذلك، تبقى الرسالة خالدة: أن طريق الحرية لا يمر إلا عبر الصبر، وأن الظالم مهما تجبر، فموعده إلى زوال، وكما خرج النبي ﷺ وأصحابه من الشعب أشد قوة وثباتًا، وكما بقيت دماء سمية وياسر منارات للتاريخ، سيبقى صمود غزة شاهدًا على أن الشعوب تقهر بالجوع والقصف، لكن لا تُنتزع منها إرادة الحياة.

إن غزة اليوم تقول بلسان حالها: صبرًا يا أهل فلسطين، فإن موعدكم النصر أو الجنة، ولعل التاريخ حين يعيد نفسه، يعيد أيضًا وعد الله: إِن مع العسر يسرا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى