جوارديولا.. المدرب العظيم اختار أن يكون إنسانًا أعظم

محمد عبدالمقصود
في زمن أصبح فيه الصمت هو الخيار الأسلم، ويصبح الحديث عن القضايا الإنسانية مخاطرة في عالم الأضواء والشهرة، خرج بيب جوارديولا مدرب مانشستر سيتي، وأحد أعظم العقول في تاريخ كرة القدم ليقول للعالم: هناك ما هو أثمن من الألقاب والبطولات.. أن تظل إنسانًا قبل كل شيء.
جامعة مانشستر منحت جوارديولا هذا الأسبوع درجة الدكتوراه الفخرية تكريمًا لدوره المؤثر في المدينة، ليس فقط من خلال الإنجازات الرياضية التي قاد بها فريق مانشستر سيتي إلى المجد، بل بسبب عمله الإنساني وتأثيره المجتمعي. ولكن المبهر في هذا المشهد لم يكن مجرد التكريم، بل استغلاله لهذه اللحظة ليسلط الضوء على القضايا التي يحاول العالم أن يصرف الأنظار عنها.
في خطابٍ صادق، وبلغة تنبع من ضميرٍ حي، تحدث جوارديولا عن المعاناة التي يعيشها الأبرياء في أماكن عدة من العالم، وخص بالذكر ما يحدث في غزة، بكلمات بسيطة لكنها تحمل وزنًا عظيمًا، قال جوارديولا: «من المؤلم للغاية ما نراه في غزة. يؤلم كل جوارحي. الأمر لا يتعلق بالأيديولوجيا ولا بالصواب والخطأ. الأمر يتعلق فقط بحب الحياة والاعتناء بجارك. ربما نعتقد أننا نرى أطفالًا وفتيات في الرابعة من أعمارهم يُقتلون بالقنبلة أو في المستشفى لأنه لم يعد هناك مستشفى على الإطلاق. ونقول: هذا ليس من شأننا. لكن انتبهوا… الأطفال القادمون بعمر أربع أو خمس سنوات سيكونون أطفالنا. آسف، لكنني أرى أطفالي ماريا وماريوس وفالنتينا. عندما أرى كل صباح منذ بداية الكابوس الأطفال الرضع في غزة أشعر بخوف شديد».
ما فعله بيب لم يكن مجرد كلمات عابرة في مناسبة رسمية، بل كان موقفًا إنسانيًا شجاعًا من رجل يدرك جيدًا أن هذه الكلمات قد تكلفه الهجوم والانتقادات وربما أكثر، خاصةً وهو يقف في قلب أوروبا، في مدينة مانشستر، ويتحدث عن قضية يحاول كثيرون طمسها.
في هذا المشهد، كان يمكن لجوارديولا أن يكتفي بالابتسامات الرسمية، وأن يظل محصورًا في دوره الرياضي، لكنه اختار أن يرفع صوته في صرح علمي وأكاديمي بعيد عن ضوضاء الملاعب، ليوصل رسالة للعالم أجمع: الصمت ليس خيارًا حين يكون الألم بهذا الوضوح.
الأكثر دهشة وإعجابًا أيضًا، أن هذا الموقف جاء من رجل ليس عربيًا ولا مسلمًا، بل إنسان فقط، يدرك أن الضمير لا يحتاج إلى هوية دينية أو قومية يحتاج فقط إلى قلب لا يزال نابضًا بالحقيقة.
بيب جوارديولا أثبت للجميع أنه ليس مجرد المدرب الأعظم في كرة قدم حسب رأي الكثيرون، بل إنسان لم يغيره بريق الألقاب، ولم تسحبه دوامة المجد بعيدًا عن قيمه الأصيلة في عالمٍ يبحث فيه الكثيرون عن النجومية ولو على حساب القيم، يأتي جوارديولا ليعيد تعريف معنى “النجم الحقيقي” — ذلك الذي يستخدم نجاحه كمنبر للحق.
تكريم جوارديولا في جامعة مانشستر هو من أكثر الدرجات الفخرية استحقاقًا في هذا الزمن، لأنها ذهبت لرجل لم يكتفِ بأن يكون مدربًا عظيمًا، بل اختار أن يكون إنسانًا أعظم، وفي زمن قلّت فيه المواقف، لا يسعنا إلا أن نقول: عظيم يا بيب.. لم تنل فقط درجة فخرية، بل استحققت لقبًا لا تمنحه الجامعات: درجة «إنسان».